مبادرة كسلا: كيف يمكن لمنهج دراسي أن يغير مصير ولاية

بقلم: خالد المصطفى
في قلب الأزمة البيئية الأكثر تعقيداً التي يواجهها السودان، حيث تلتهم الرمال القرى وتنضب الآبار ويزحف الجفاف كعدو صامت، تبرع ولاية كسلا بحكمة استثنائية. هنا، حيث تُختبر صمود المجتمعات البشرية في مواجهة قسوة الطبيعة يومياً، تتحول الفصول الدراسية من مجرد حجرات للتعليم النظري إلى ورش عمل حية لإنقاذ المستقبل. القرار الذي اتخذه الأستاذ عثمان عمر عثمان، وزير التربية والتوجيه بالولاية، بإطلاق “منهج العلوم البيئية المتكامل والمتكيف مع بيئة السودان” ليس إجراءً إدارياً عادياً؛ بل هو إعلان استباقي عن تغيير جذري في الفلسفة التعليمية. إنه اعتراف بأن الخطوط الأمامية في معركة السودان من أجل البقاء لم تعد تقع على حدود سياسية، بل داخل عقول أطفاله. هذا المنهج، الذي قد يبدو للبعض مجرد مقرر دراسي جديد، هو في جوهره محاولة طموحة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الإنسان السوداني وبيئته، وهو تجربة ترقى لأن تكون نموذجاً وطنياً.
لطالما كانت الاستجابة التقليدية للتحديات البيئية في السودان، مثل التصحر الذي يلتهم 110 ألف هكتار سنوياً وفق تقديرات منظم…
منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، تقوم على المشاريع القطاعية قصيرة الأمد والمعالجات الآنية التي تتعامل مع الأعراض لا الأسباب. جاء هذا المنهج لقلب هذه المعادلة من جذورها، مستلهماً رؤية أعمق تستند إلى إدراك أن الجذور الحقيقية للأزمة تكمن في أزمة وعي. إنه يتعامل مع الفجوة الخطيرة بين المعرفة العلمية العالمية المتطورة حول الاستدامة، وبين الواقع المحلي اليومي للطالب في قرى كسلا ومدنها. الأسباب الجذرية التي يعالجها تتعلق بفصل التربية عن احتياجات الأرض، وبثقافة استهلاكية تتجاهل مفهوم “القدرة الاستيعابية” المحدودة للنظم البيئية الهشة. لقد ولدت المبادرة من رحم إجابة على سؤال محوري: ماذا لو حوّلنا البيئة نفسها، بمشاكلها القاسية، إلى كتاب مدرسي مفتوح؟الوضع الراهن للمبادرة يصور تحولاً ملموساً في المشهد التربوي. لم يعد الحديث عن البيئة مقتصراً على نصوص نظرية عن أهمية الأشجار”، بل تحول إلى بحث عملي في كيفية قياس ملوحة التربة المتزايدة بفعل الري غير المرشد في مشاريع ولاية كسلا الزراعية، أو حساب “البصمة المائية” لعائلة الطالب مقارنة بشح الموارد في حوض نهر القاش. المنهج، كما يصفه مطوروه، هو عملية “توطين علمي” تدمج بين منهجيات التفكير العالمية، مثل تلك التي تبناها برنامج الأمم المتحدة للبيئة في التكيف مع تغير المناخ، والمشاهد المحلية التي يعيشها التلميذ. الطلاب الآن يتعلمون الرياضيات من خلال معادلات توازن المياه، والفيزياء من خلال دراسة كفاءة الألواح الشمسية في منطقتهم، والكيمياء من خلال تحليل مكونات التربة المتدهورة. إنه تحول من ثقافة الحفظ إلى ثقافة الاستقصاء، حيث يصبح السؤال المركزي: “كيف نقيس المشكلة؟” بدلاً من “ماذا نعرف عنها؟”.
التبعات المباشرة لهذا التوجه بدأت تظهر على مستويات متعددة. على مستوى السياسات، فرض القرار الوزاري نفسه أولويات جديدة، حيث تحولت البيئة من موضوع هامشي إلى محور لتخطيط الموارد وتدريب المعلمين وتأهيل المدارس. الرد من المجتمع التربوي كان ملحوظاً، حيث بدأ المعلمون، عبر ورش عمل مكثفة بالشراكة مع كليات التربية والعلوم، في تبني دور المرشد البيئي عوضاً عن دور “الناقل للمعلومة”. الأثر الأكثر عمقاً ربما كان في عقلية الطلاب أنفسهم، حيث تشير ملاحظات ميدانية أولية إلى تزايد المبادرات الطلابية العفوية، من محاولات إعادة تدوير النفايات في ساحات المدارس إلى اهتمام غير مسبوق بمراقبة الطيور والنباتات المحلية. لقد بدأ المنهج، بشكل غير مباشر، في خلق لغة مشتركة جديدة بين المدرسة والمجتمع، حيث تحولت التحديات البيئية من مصادر للشكوى إلى مواضيع للنقاش العائلي وحتى لحلول مقترحة من قبل الصغار.
التطورات المستجدة تتجه نحو تعميق هذا النموذج وتحويله من تجربة محصورة في المدرسة إلى حركة مجتمعية أوسع. هناك نقاشات جارية الآن حول إشراك أولياء الأمور، خاصة المزارعين والرعاة، كـ “خبراء محليين” في بعض الدروس، مما يعزز الجسر بين المعرفة الأكاديمية والحكمة التراثية المتراكمة. تقارير أولية من حقل التدريب تشير إلى أن المعلمين الأكبر سناً، الذين يحملون كنزاً من الخبرة في التعامل مع بيئة كسلا، أصبحوا شركاء أساسيين في تطوير المحتوى العملي، خاصة فيما يتعلق بأنظمة “الحصاد المائي” التقليدية مثل “الترع” و”الحفائر”. في الوقت نفسه، بدأت إدارات أخرى في الحكومة الولائية، مثل الزراعة والري تظهر اهتماماً غير معتاد بنتائج تعلم الطلاب، بل وبدأت في طلب عروض لمشاريع تخرجهم البسيطة، وكأن المدرسة باتت مخبراً للبحث والتطوير للمشاريع الكبرى.التحليل المتعمق لهذه الخطوة يكشف عن أبعاد غير متوقعة تتجاوز التعليم البيئي التقليدي. أولاً، المنهج يعيد تعريف مفهوم الأمن القومي في سياق سوداني، حيث يصبح تآكل التربة وندرة المياه تهديدات وجودية لا تقل خطورة عن أي تهديد آخر، ويكون سلاح المواجهة هو المعرفة المنتجة محلياً. ثانياً، يمثل المبادرة نموذجاً نادراً لـ “التكيف القائم على النظام التعليمي”، وهو نهج تروج له اليونسكو لكن قلما يُطبق بهذه الجرأة. بدلاً من استيراد حلول جاهزة، يبني السودان قدرته الذاتية على التكيف من خلال تعليم أبنائه لغة الحوار مع بيئتهم. ثالثاً، هناك بعد اقتصادي خفي: بتعريف الطلاب على مفاهيم الاقتصاد الدائري و”الطاقة المتجددة” منذ الصغر، يتم تحضير جيل من رواد الأعمال المستقبليين الذين قد يحولون تحديات مثل النفايات أو شمس الصحراء الحارقة إلى فرص اقتصادية، وهي رؤية تؤكدها تقارير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) حول إمكانات الطاقة الشمسية في أفريقيا.آفاق وتوقعات المستقبل لهذا المسار تعتمد على تحويل النجاح المحلي في كسلا إلى سياسة وطنية. النموذج الولائي يحتاج إلى التوسع، لكن ليس بنسخه حرفياً، بل بتكييفه مع النظم البيئية المتباينة في دارفور وكردفان والجزيرة. التحدي الأكبر سيكون توفير البنية التحتية الداعمة: تدريب آلاف المعلمين، وتأمين الحقائب البيئية” البسيطة لأدوات القياس، وإدماج التقييم العملي في الامتحانات الوطنية. التوقع الأكثر تفاؤلاً هو أن تتحول كسلا إلى حاضنة لفكر تعليمي جديد، يجذب اهتمام الباحثين الدوليين في مجال التربية من أجل التنمية المستدامة، ويكون موضوعاً لدراسات حالة في المؤسسات العالمية. الأهم من ذلك، أن يخلق هذا الجيل الجديد ضغطاً مجتمعياً إيجابياً نحو ممارسات أكثر استدامة في الزراعة والرعي وإدارة المياه، مما قد يغير بشكل تدريجي ولكن جذري العلاقة بين المجتمع السوداني وموارده الطبيعية المحدودة.في الختام، ما يجري في كسلا هو أكثر من إصلاح تعليمي؛ إنه محاولة لنسج ثقافة جديدة. الثقافة البيئية التي يتحدث عنها المنهج ليست مجرد وعي بمخاطر التلوث، بل هي رؤية شاملة تجعل من الطالب حارساً للتربة، ومهندساً للمياه، ومستثمراً في الشمس. إن استثمار الأستاذ عثمان عمر عثمان وزير التربية في هذا المنهج هو في الحقيقة استثمار في العقل الجمعي السوداني، وإعادة اكتشاف للذات في علاقتها مع الأرض. نجاح هذه التجربة لن يُقاس بعدد المدارس التي تطبقه، بل بقدرة خريجيها على الإجابة عن السؤال المصيري: كيف نعيش في هذه الأرض الهشة بكرامة واستدامة؟ الإجابة التي سيتلمسونها في كسلا قد تكون البذرة التي يحتاجها السودان كله لإعادة اختراع مستقبله، مستقبل يرتكز لا على ما يمكن استخراجه من الأرض، بل على ما يمكن تعلمه منها واحترامه فيها.



