في وجه الحقيقة. ابراهيم شقلاوي يكتب .حرب السودان تهدد الإرث الحضاري والإنساني العالمي.
كتب: إبراهيم شقلاوي.
حين بدأنا التأسيس لإنشاء سد مروي تكونت عدد من اللجان المساعدة من الخبراء الوطنيين الأفذاذ ضمن فريق العمل شملت الجوانب الهندسية والجوانب الانشائية وجوانب الكهرباء والجوانب الاجتماعية.. ضمن هذه اللجان كانت اللجنة العلمية برئاسة البرفسور يوسف فضل حسن.. وضمت برفسور الأمين أبو منقة البرفسور سيد حامد حريز البرفسور احمد عبد العال والبرفسور عون الشريف قاسم والبرفسور على صالح كرار والبرفسور حسن مكي والبرفسور جعفر مرغني البرفسور على عثمان صالح وآخرين لم تسعفني الذاكرة.. كانت رؤية الإدارة العليا أن هذه اللجنة من أهم اللجان على الإطلاق إذ انها معنية بالدراسات الإجتماعية وحفظ تاريخ المناطق المتأثرة بقيام السد وحفظ الآثار التاريخية..وهذه كانت من الحصافة والانتباه الذي يحسب لكل فريق العمل بقيادة المدير العام آنذاك أسامة عبد الله محمد الحسن الذي أصبح لاحقا وزيرا للوزارة .. كان هناك إهتمام كبير وعظيم من إلادارة العليا بل من الحكومة.. في تلك الفترة حيث كانت تعلم مدى أهمية إنقاذ آثار كافة المناطق المتأثرة بقيام المنشآت سدود أو طرق أو جسور.. وذلك لادراكهم أن تاريخ الشعوب يحكي عن عمقها الحضاري وعن مساهمتها في تطوير التاريخ وحفظ الحضارة الإنسانية.. تذكرت هذه الأحداث المهمة حين كنت ضمن طاقم العمل في وحدة تنفيذ السدود..حيث العمل موصول ليله بنهاره في تجرد ومحبة لهذا الوطن ولهذا الشعب..في تلك الفترة أطلق السودان.. نداء عالمي لمعاونته في انقاذ آثار الحضارات القديمة في منطقة سد مروي نتيجة لإنشاء السد والمشروعات المصاحبة هو الثاني من نوعه في تاريخ السودان.. حيث كان الأول في مطلع الستينات لدى الإتفاق على قيام السد العالي في جمهورية مصر العربية الذي غمر منطقة شاسعة في الشمال وأغرق أقدم مدينة سودانية – حلفا – وقد سارع العالم آنذاك الى المشاركة الفاعلة في إنقاذ آثار النوبة القديمة التي يعود تاريخها الى أكثر من أربعة و خمسمائة عام وأكتشفت آنذاك قصور وقلاع ومعابد.. اشهرها معبد بوهين الذي نقلت أعمدته الفخمة الى المتحف القومي السوداني بالخرطوم وقد وضعت أمام مدخله لتحكي عظمة الحضارة السودانية .. بجانب آثار اخري.. هذا المتحف الذي أسس في العام 1904م في كلية الآداب بجامعة الخرطوم بغرض حفظ الآثار السودانية وحفظ تاريخ الحضارة السودانية بكافة حقبها التاريخية.. والذي إنتقل لاحقا إلى مقر المتحف القومي الحالي بشارع النيل في العام 1971م.. ظل المتحف مستودعا لحفظ المقتنايات الأثرية بكل تنوعها من مخطوطات و تماثيل ونصب تذكارية.. لعصور ماقبل التاريخ وحتى فترة الممالك الإسلامية..التي نشأت في السودان.. بجانب الآثار التي تم إنقاذها من محور سد مروي.. جالت بخاطري هذه الذكريات وأنا اقرأ في إحدى الصحف الغربية.. خبر مفجع ضمن فواجع هذه الحرب البائسة التي مازال البعض يقول أنها مجرد صراع سياسي على السلطة.. الخبر تصدر المواقع العالمية في غياب واضح للمؤسسات الوطنية والمنظمات المختصة.. وهو سرقة الآثار السودانية التي تحكي حضارة السودان منذ فجر التاريخ من المتحف القومي السوداني كما شملت السرقة مواقع اثرية أخرى جراء الحرب التي يخوضها الجيش السوداني مع قوات الدعم السريع المتمردة منذ منتصف أبريل من العام الماضي إثر محاولتها المدعومة اقليميا الاستيلاء على الحكم وإعادة هيكلة الجيش السوداني و المجتمع وفقا للايدلوجية السياسية التقدمية.. للأسف الشديد لم يجد حدث سرقة المتحف الاهتمام اللازم من الإعلام المحلي بالرغم من تناوله في الإذاعة والتلفزيون المحلي.. إلا أن الموضوع أكبر من كونه مجرد خبر ضمن أخبار الحرب.. كذلك الأخبار لم تحدثنا عن مواقع أخرى من المتاحف السودانية بالعاصمة الخرطوم التي تقع تحت سيطرة القوات المتمردة مثل متحف الإثنوغرافي و متحف التاريخ الطبيعي.. ودار الوثائق القومية وعدد من المكتبات التاريخية الضخمة.. بالإضافة الى متحف بيت الخليفة الذي تم استرداد منطقته مؤخرا بواسطة الجيش السوداني.. الأمر في تقديري جزء من الاستهداف الممنهج لطمس الهوية السودانية الوطنية وسرقة التاريخ.. كما نعلم يوجد في السودان عدد كبير من المواقع الأثرية والتراثية مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي بعد إقرارها بواسطة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة – اليونيسكو- هي مواقع جبل البركل ومواقع المنطقة النوبية التي تضم الجبل و عدداً من المواقع الأثرية النوبية منها 13 معبداً.. وثلاثة قصور وعدداً من الأهرام التي قدر عددها 15 هرماً.. تحمل أسماء ملوك وملكات مملكة كوش خلال تلك الفترة، ثم أضيفت لاحقا منطقة مروي.. هذا إلى جانب منطقة النقعة و المصورات.. التي هددتها الحرب بعد ظهور مجموعات من قوات الدعم السريع المتمردة على تخومها في فترة من فترات تطور الحرب دون توثيق ما جرى حتى تم دحرت هذه القوات بواسطة الجيش السوداني.. كما قلنا فقد إشارات الاخبار المحلية إلى عمليات نهب جماعي في المتحف الوطني السوداني في الخرطوم وسط الحرب المستمرة حيث أظهرت صور الأقمار الصناعية أدلة على عملية نهب وتهريب واسعة النطاق من قبل قوات الدعم السريع المتمردة حيث تم تهريب بعض القطع الأثرية إلى جنوب السودان وفقًا لتقرير إذاعة ام درمان السودانية.. من المعلوم كما أشرنا فإن المتحف الوطني يحتوي على أكبر مجموعة أثرية نوبية في العالم، بالإضافة إلى قطع أثرية من حضارات قديمة مثل مملكة كوش ومملكة علوة.. وممالك أخرى تمثل النسيج القومي السوداني.. بالإضافة إلى المجموعة النوبية مومياوات محنطة يعود تاريخها إلى 2500 قبل الميلاد، مما يجعلها من بين أقدم الأمثلة في العالم.. حيث أشار خبر الإذاعة السودانية أن بعض محتويات المتحف معروضة للبيع عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.. أوضحت الإذاعة المحلية أنه تم تهريب بعضها الي دولة جنوب السودان.. كذلك كشفت مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف في السودان الدكتورة غالية جار النبي عن تفاصيل جديدة حول سرقة آثار متحف السودان القومي حسب – العربية نت- وأكدت أن السرقة حدثت بالفعل و أنها علمت بها قبل حوالي شهر أو أكثر لكنها فضّلت إبقاء الأمر طي الكتمان لضمان نجاح جهود تتبع اللصوص دون إثارة شكوكهم.. و أوضحت أن لصوص الآثار إذا شعروا بانتشار الخبر.. فقد يلجؤون إلى تدمير أو إخفاء الآثار المسروقة.. كذلك أشارت الدكتورة غالية إلى أن توجيهات السلطات العليا والأجهزة الأمنية قضت بإبقاء الواقعة سرية تمامًا.. حتي تتمكن الأجهزة الأمنية من استرداد المسروقات.كما قالت أيضا أنهم قد ابلغوا الجهات الاقليمية والدولية مثل منظمة – اليونسكو- و – الإنتربول- بالإضافة إلى كل الهيئات المعنية بتعقب واسترداد القطع الأثرية المسروقة.. في الختام يظل وجه الحقيقة في التأكيد على أهمية إدانة هذه الأعمال الإجرامية المرتكبة بواسطة قوات الدعم السريع المتمردة من قبل كافة الأحزاب السياسية الوطنية في السودان لأن هذه الفاجعة لم تستهدف فقط التراث الثقافي السوداني.. بل ألقت بظلالها على الإرث الحضاري والإنساني العالمي بأسره.