رأي

فريد منجا مكي يكتب :حين يتأخر الضمير الإنساني، يصبح الدم لغة التذكير الوحيدة

بقلم: فريد منجا مكي
بعد سقوط مدينة الفاشر، آخر معاقل الدولة في إقليم دارفور، عاد إلى الواجهة مجددا الحديث عن “هدنة إنسانية” ووقف مؤقت لإطلاق النار، بذريعة فتح الممرات الآمنة وتمكين الإغاثة من الوصول إلى المدنيين.
غير أن هذه الدعوات، على كثرتها، تُثير تساؤلات مشروعة حول دوافعها الحقيقية وتوقيتها المتأخر: هل هي فعلا نابعة من إحساس إنساني صادق، أم محاولة متأخرة لتجميل عجز المجتمع الدولي بعد أن بلغت المأساة ذروتها؟
المبررات المعلنة للهدنة
تستند الدعوات الراهنة إلى جملة من الأسباب التي تبدو في ظاهرها إنسانية منها:
– فتح الممرات الآمنة لإيصال الغذاء والدواء إلى المناطق المحاصرة.
– إجلاء الجرحى والمرضى في ظل الانهيار الكامل للنظام الصحي.
– تمكين المنظمات الإنسانية من الدخول إلى مناطق النزاع دون عوائق.
– تهيئة الأجواء لمرحلة حوار أو تسوية سياسية لاحقة.
لكن خلف هذا الغطاء الإنساني تختبئ أجندات سياسية، تسعى بعض القوى من خلالها إلى إعادة تموضعها في المشهد بعد تغيّر موازين القوى ميدانيًا، لا سيما بعد التحولات الأخيرة في دارفور.
أين كان الضمير الإنساني الدولي؟
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم بمرارة
أين كان الضمير الإنساني العالمي قبل أن تسقط الفاشر؟ وأين كان حين جاع الناس في كادقلي والدلنج تحت حصار طويل؟*
فالمعاناة لم تبدأ اليوم، بل تراكمت لأشهر في جنوب كردفان ودارفور وسط صمت دولي مريب.
الأمم المتحدة اكتفت بعبارات “القلق العميق”، ومجلس الأمن ظل رهينًا لتجاذبات المصالح بين القوى الكبرى، أما المنظمات الإنسانية فآثرت الغياب الميداني بحجة انعدام الأمن.
ولماذا لم ينفذ قرار مجلس الأمن رقم 2736، المعتمد في 13 يونيو 2024، الذي يطالب مليشيا الدعم السريع بوقف حصارها للفاشر، ويدعو إلى خفض التصعيد في الفاشر ومحيطها وسحب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة وأمن المدنيين، ويطالب جميع أطراف النزاع بالتزام القانون الدولي الإنساني
ذلك الصمت لم يكن حيادا، بل تواطوا غير معلن ساهم في تفاقم الكارثة حتى أصبحت المجاعة والنزوح والدمار مشهدا يوميا يتصدر المشهد السوداني.
الهدنة بين الضرورة والعبث
لا جدال في أن أي وقف لإطلاق النار يُعد بارقة أمل لإنقاذ الأرواح.
لكن المشكلة لا تكمن في الفكرة، بل في التوقيت والمصداقية.
فالهدنة التي تُطرح بعد سقوط المدن ليست بالضرورة فعلاً إنسانياً ، بل قد تكون وسيلة لإعادة ترتيب أوراق الحرب.
الهدنة الحقيقية هي التي تُبنى على نوايا إنسانية خالصة، وتُدار بإشراف محايد، يضمن مرور المساعدات دون توظيف سياسي أو عسكري.
أما الهدن الشكلية التي تُفرض كلما تغيّر ميزان القوة وسيطرة الميدان، فهي عبث مؤقت، لا يوقف معاناة الناس بل يطيل أمدها.
نحو رؤية وطنية للهدنة
السودان اليوم بحاجة إلى هدنة تنبع من ضميره الوطني قبل أن تُفرض عليه من الخارج؛ هدنة غايتها حماية الإنسان لا كسب الوقت أو تثبيت المواقف.
ويمكن أن تتحقق هذه الرؤية عبر:
– توحيد الجهود الوطنية لإغاثة المدنيين بعيدا عن الاستقطاب السياسي.
– إلزام مليشيا الدعم السريع المتمردة باحترام قواعد القانون الدولي الإنساني.
– توثيق جميع الانتهاكات لضمان المساءلة وعدم الإفلات من العقاب لاحقا.
إن الضمير الوطني، لا الضمير الدولي، هو الأمل الحقيقي لصون الكرامة الإنسانية واستعادة ما تبقى من الوطن.
خاتمة وتساؤلات مشروعة
الهدنة الإنسانية اليوم قد تبدو ضرورة أخلاقية لا مفر منها، لكنها لن تثمر ما لم تبن على صدق النوايا ونزاهة التنفيذ.
لقد تأخر العالم كثيرا، وغابت الإنسانية خلف حسابات السياسة وموازين المصالح.
ومع ذلك، يظل السؤال قائماً ومفتوحا على كل الاحتمالات:
قد كانت هناك هدنات سابقة تم اختراقها من قبل مليشيات الدعم السريع، وكانت فرصة بالنسبة لهاللاستجمام وإعادة التموضع، ولم تلتزم أصلا بوقف إطلاق النار. فما الجديد في عقد هدنة أخرى؟ وما هي الضمانات هذه المرة لالتزام المليشيا بها وعدم استغلالها مجددا لإعادة تنظيم صفوفها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى